وأشمل الروايات في ذلك ما كان من طريق
عمر، وإلا فقد ورد في
البخاري من طريق
أبي هريرة. وقولهم: إنه (متفق عليه) لنا عليها ملحظ وسنبينه، فالرواية الأشمل ما جاء في أول
صحيح مسلم عن
عبد الله بن عمر ، عن أبيه رضي الله عنهما قال: (
بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. )، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً كعادته في صدر أصحابه، وهم حوله يتلقون منه النور والهدى والإيمان، فإن قدم سائل أو جاء زائر أو حدث أي أمر فإنهم ينتظرون ماذا سيخبرهم عنه، وماذا سيقول صلى الله عليه وسلم، ففي تلك اللحظة جاء إليهم رجل لا يدرون من أين جاء، وقد كان هذا الرجل: (
شديد بياض الثياب، وشديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ). فهذه ميزات عجيبة، وهي أدعى إلى أن ينتبه الجميع له، وينظرون ماذا يريد، فليس بقادم من سفر بعيد، وهم يعرفون الناس أحياناً من اللهجة، فيعرفون أن هذا جاء من
نجد ، أو غطفان، أو
اليمن ، أو
خيبر ، لكن هذا رجل غريب، فهو شديد بياض الثياب، ولا يلاحظ عليه أنه تكلف وعانى المتاعب، وشديد سواد الشعر، فليس عليه أثر السفر أو المشقة، ولو لم يكن مسافراً وكان من أهل
المدينة لعرفوه، وأما هذا الرجل فلا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ لأن كل واحد منهم ينظر إلى الآخر، وينظر إلى الرجل؛ فكأنهم يقولون: من هو فإننا لا نعرفه، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (
أتدرون من الرجل؟ ) قالوا: لا يعرفه منهم أحد.ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس كهيئة التشهد، ووضع يديه على فخذيه، وجلس جلسة المتأدب المتعلم، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يستحب أن يجلس في خطبة الجمعة هكذا.ثم ما زاد العجب والغرابة أنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور عامة جامعة عظيمة، ثم بعد أن يجيبه يقول له: صدقت؛ في كل أمره، قال
عمر : (
فعجبنا له يسأله ويصدقه ).إذاً: فهذا ليس بجاهل، وليس بمستعلم ومستفهم، وإنما هو في الحقيقة مقرر، فالله تعالى أنزله بهذا الدين شيئاً فشيئاً حتى اكتمل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر وكأنه في حالة المراجعة الأخيرة، والعرضة الأخيرة؛ كما حصل ذلك في القرآن، وهذه عرضة شاملة لحقائق الدين، وأصول الدين التي تتفرع منها كل الشعب.